شرح كتاب النكاح من صحيح البخاري
باب: تزويج المعسر
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد اسم> وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام البخاري اسم> -رحمه الله تعالى- باب تزويج المعسر في قوله تعالى: رسم> إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ قرآن>
رسم> .
قال أبو عبد الله اسم> حدثنا قتيبة اسم> قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم اسم> عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي اسم> -رضي الله تعالى عنه- وأرضاه، أنه قال: رسم> جاءت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، جئت أهب لك نفسي. قال: فنظر إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست، فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها. فقال: وهل عندك من شيء؟ قال: لا والله يا رسول الله. فقال: اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا. فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انظر ولو خاتما من حديد. فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد، ولكن هذا إزاري -قال سهل اسم> ما له رداء- فلها نصفه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما تصنع بإزارك إن لبسْتَه لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسَتْه لم يكن عليك منه شيء، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه، قام فرآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موليا فأمر به فدعي فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا –عدَّدها- . فقال: تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم. قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن متن_ح>
رسم> .
السلام عليكم ورحمة الله. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد اسم> على آله وصحبه أجمعين.
قال البخاري اسم> -رحمه الله- باب تزويج المعسر؛ أي الفقير الذي لا يجد مهرا يدفعه كصداق للمرأة، وأرادوا بذلك أن الله تعالى سيرزقه كما وعده في قوله تعالى: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
وعد من الله تعالى أنه إذا تزوج يريد التعفف، وكان فقيرا فإن الله يرزقه ويغنيه من فضله.
الأيامى: النساء غير المتزوجات الواحدة أيِّم؛ إما أن تكون مطلقة أو متوفى عنها أو لم تتزوج فإنها أيِّم، أي: لاتتركوهن أيامي، زوجوهن من تقدم لهن.
رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
ثم إن هذا أمر واقع، مشاهد أن الإنسان إذا تزوج وهو فقير فإن الله يغنيه من واسع فضله؛ يغنيه ويرزقه برزق الأطفال وبرزق الأيامى؛ فقد تكفل الله تعالى برزق الأولاد في قوله تعالى: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
تقدم أن عبد الرحمن بن عوف اسم> تزوج على قطعة ذهب صغيرة بقدر نواة التمر، وزن نواة من ذهب، وذلك دليل على تخفيف الصداق، وكذلك أيضا ذكرنا أن امرأة تزوجت، أعطاها زوجها نعلين صداقا، فقال لها -صلى الله عليه وسلم- رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
وغير ذلك من الأدلة، وذكرنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
لما خطب علي اسم> -رضي الله عنه- فاطمة اسم> طلب منه النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئا يدفعه لها، فلم يجد. قال: ما عندي شيء وكأنه يريد النقود فقال: أين درعك الحطبية؟ فقال: هي عندي، فقال: أعطها إياها.
مع أن الدرع إنما تصلح للرجال يقاتلون بها في الجهاد، فأعطاها؛ حتى يكون قد أصدقها مالا، ولأن الله تعالى أمر بإعطائهن فقال تعالى: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
وكذلك قال تعالى: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
وكل ذلك دليل على أن للمرأة حق في أن الزوج يدفع لها مهرا، يعني صداقا.
وذكر العلماء أنها تملك الصداق بمجرد العقد، متى حصل العقد دخل الصداق في ملكها سواء كان معينا، كأن يقول: هذه الدار صداق لها، أو هذه الشاة صداق لها أو هذه النخلات، فتدخل في ملكها بمجرد العقد، فيكون أجرة الدار لها بعد العقد، وثمر النخل لها، وولد الشاة أو الناقة بعد العقد لها؛ لأنه نماء ملكها إلا أنه إذا طلقها قبل أن يدخل بها رجع بنصفه ولا يرجع بنصف النماء والأجرة، وإنما يرجع بنصف المهر الأصلي؛ لقوله تعالى: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
ثم عرفنا أن هذا دليل على أن للمرأة صداق إذا عقد عليها وأنه يشرع تخفيف الصداق.
وفي هذه القصة؛ القصة المشهورة أن هذه المرأة كأنها من المهاجرات ولم يكن لها زوج، أو هاجرت وتركت زوجها، أو تركت أهلها، جاءت وقالت: يا رسول الله، إني قد وهبت لك نفسي، وكأنها سمعت قول الله تعالى: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
فأرادت أن تحظى بزوجية النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت عائشة اسم> تنكر على اللاتي يهبن أنفسهن، ولكن ذلك من باب الغيرة، كما هو معروف أن المرأة تغار أن يكون لها شريك في زوجها؛ فلذلك أنكرت على هؤلاء، ولكن معلوم أنهن ما قصدن إلا الخير؛ ليحظين أن يكن من زوجاته اللاتي يكرمهن الله تعالى ويجعلهن زوجات له في الدار الآخرة، يظن أنها وهبت نفسها له نظر إليها، معلوم أيضا أنها كانت متسترة، ولكنها وقفت فنظر إليها إلى قامتها وإلى هيئتها وإلى هيكلها، صعد النظر فيها ثم صوبه؛ يعني ثم خفضه، ثم إنه صرف نظره عنها، ثم إنها جلست، وذلك دليل على أنه ليس لها أهل وليس لها مأوى.
جلست فقام أحد الصحابة الجالسين من الفقراء، فقال: إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، وهذا دليل على أنه ليس بمتزوج، وأنه غير قادر، عند ذلك طلب منه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يصدقها شيئا، فذكر أنه لا يملك شيئا، ويمكن، أنه من المهاجرين الذين ليست لهم ملك، ما نقل اسمه، ولا نقل اسمها أيضا، لم تسم هذه المرأة ولا هذا الرجل.
ولعل ذلك من باب الستر عليهما، فلما طلب منه ذكر أنه لا يجد، أرسله، وقال: اذهب إلى أهلك، يدل على أن له أهل، ويمكن أن يكون مع قوم من المهاجرين الذين يسكنون في –مثلا- في بيت صغير أو حجرة صغيرة يأوون إليها، وفي النهار يلتمسون الرزق.
وكذلك أيضا تأتيهم الصدقات ونحوها، فذهب فالتمس فلم يجد شيئا، معناه أنه لم يجد، لو وجد قدحا أو وجد خمسا؛ يعني كفراش أو وجد عباءة أو شيئا من المال الذي يتمول لقال: أجد، رده، وقال: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
فذكر أنه لا يجد وليس عليه إلا إزار يشد به عورته وليس عليه رداء، إزار قد شد به عورته، يقول سهل اسم> ما له رداء، الرداء ما يجعل على الرقبة كما يجعل على المحرم، أي: ليس عليه إلا هذا الإزار، فقال -صلى الله عليه وسلم- ماذا تصنع بإزارك؟، إزار واحد، إذا أعطيتها ذلك الإزار بقيتَ عريانا، وإذا لبسَتْه ما انتفعت به، ماذا تصنع به؟ فلما لم يكن يجد شيئا جلس وأطال الجلوس، ثم قام وانصرف، فلما ولى أمر به فدعي، فأقبل فسأله: ماذا تحفظ من القرآن؟ ماذا معك من القرآن؟ فقال: أحفظ سورة كذا وسورة كذا من سور عدَّدها. وفي رواية آيات فقال: تقرأهن عن ظهر قلب؛ أي تحفظهن وكأنه لم يكن من الذين يكتبون، إنما تعلم ما تعلم حفظا من آيات وسور، كانوا يهتمون إذا هاجروا بتعلم القرآن وبحفظ ما تيسر منه.
فلما أخبره بأنه يحفظ هذه السور، قال له: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
ثم اختلف هل يصلح تعليم القرآن مهرا كما في هذه القصة؟
فاختار كثير من الفقهاء أنه لا يصلح مهرا، وذلك لما ورد من النهي عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ ففي حديث رسم> سلمان اسم> أنه علم رجلا من المهاجرين آيات من القرآن أو سور فأهدى إليه قوسا فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أحببت أن يقوسك الله به، أو يسورك بقوس من النار فخذه؛ فرده على ذلك المهاجر رسم> فأخذوا بذلك أنه لا يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن.
واستدلوا أيضا بأن القرآن تعليمه واجب على المسلمين أنه من جملة تعليم الخير، ومع ذلك فالقول الثاني: أنه يجوز جعل تعليم القرآن صداقا كما في هذا الحديث، وكما يجوز أخذ الأجرة على تعليم الشعر وتعليم الحساب وتعليم الأحكام وتعليم الأحاديث وما أشبهها، فلا مانع من أن يؤخذ على تعليم القرآن أجر؛ ولأنه ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
فذلك دليل على جواز جنس الأخذ، وإذا جاز أخذ أجرة على تعليم الفقه والأحكام والأحاديث جاز على تعليم القرآن؛ وذلك لأن القرآن أشرف العلوم، فمن علمه وتعلمه اكتسب أجرا.
ويجاب عن حديث سلمان اسم> بأنه كان محتسبا في تعليمه، ما قصد الأجر وإنما قصد بتعليمه الأجر الأخروي، لم يقصد الأجر الدنيوي، ما قصد أجرا دنيويا، إنما قصد ثواب الله تعالى محتسبا.
فعلى هذا يصح تعليم القرآن وجعله مهرا كما يصح تعليمه وأخذ الأجرة عليه، ولا شك أن المعلم؛ الذين يعلمون القرآن، يلاقون تعبا سيما في تعليم الأطفال والجهال وما أشبه ذلك؛ فيلاقون تعبا ويلاقون مشقة ويلاقون صعوبات، فيكون هذا التعليم من باب المكافأة عن ذلك التعب الذي يلاقونه، وإذا جاز أخذ الأجرة عليه جاز جعله صداقا، ودليله هذا الحديث، وما روي في بعض الروايات أنه قال: لا يصح ذلك لغيرك، أو لا يجوز جعل تعليم القرآن مهرا، ما ثبت شيء من ذلك.
فبكل حال هذا الحديث دليل واضح، فيجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وجعلها صداقا، وهو أيضا دليل على استحباب تخفيف المهور؛ فإن تعليم عشرين آية أو عشر سور أو نحو ذلك سهل، يمكن أن لا يستغرق أسبوعا أو شهرا أو نحو ذلك، كل يوم يجلس معها ساعة فيعلمها مما علمه الله؛ فيكون ذلك قائم مقام المهر، وفيه دليل على التخفيف حيث التمس منه ولو خاتما، لو وجد خاتما من حديد لجعله صداقا، ولو وجد إزارا غير إزاره لجعله صداقا، وكذلك لو وجد نعلا أو وجد قدحا أو وجد فراشا أوفلسًا أو شيئا مما يتمول، مما له قيمة ولو رخيصة لجعله صداقا، ولكن عرف من هذا أنه لا بد من الصداق فلا يصح العقد بدون صداق ولو قليلا.
هناك بعض الدول مسلمين ومع ذلك الذي يجهز المرأة أبوها والزوج لا يدفع شيئا؛ بل أبوها هو الذي يشتري لها حليها وكسوتها وأدواتها ومئونتها وأقداحها وزينا وفرشا وحليا وغير ذلك هو الذي يجهزها. الزوج ليس عليه إلا أن يستلم امرأته ويذهب بها إلى بيته، ثم يقوم بعد ذلك بالإنفاق عليها وعلى ولده منها، ولا شك أن هذا ولو قيل بجوازه لكنه مخالف للدلائل.
الأدلة تدل على أن الزوج هو الذي يدفع المهر، قال تعالى: رسم>
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
![](/images/b2.gif)
![](/images/b1.gif)
وهذا أيضا قد يحملهم عليه ضيق ذات اليد، أن الزوج يكون فقيرا، في كثير من البلاد التي يغلب على أهلها الفقر، فأما إذا كان أهل الدولة وأهل الولد عندهم الأموال، وعندهم الثروة والغنى؛ فإن الأصل أن الزوج هو الذي يدفع المهر، كما أنه الذي يقوم بالنفقة يدفع لها صداق أمثالها، ولكن ينبغي التخفيف، أن الأولياء عليهم أن يخففوا على الزوج وألا يشددوا عليه، لا يشددوا في الطلب، بل يحرصوا على أن يخففوا عنه، هذا هو الأصل.
ثم تنافس الأزواج في هذه الأزمنة ليس فقط كون كل منهم ينافس الآخر، إذا سمع أن فلانا أصدق زوجته خمسين ألفا، قال: أنا أصدق ستين، وإذا سمع أن أحدا أصدق مائة ألف قال: أنا أدفع مائة وخمسين؛ فيكون في هذا منافسة، فيكون في ذلك أيضا تكلفة ومشقة على الفقراء والضعفاء الذين يعجزهم أن يجدوا هذه المبالغ أو نصفها أو ربعها، فيبقى الكثير من الشباب بدون زواج، يبلغ أحدهم الثلاثين والأربعين وهو عاجز، ويكون ذلك أيضا سببا في بقاء الفتيات بدون أزواج؛ فتبلغ العشرين والثلاثين وأكثر من ذلك دون أن يتقدم إليها من يتزوجها، وقد يكون وليها هو السبب إذا زوج واحدة من بناته مثلا بمائة ألف أو بأكثر، هاب الناس أن يتقدموا إليه، إذا علم بأنه تشدد وفرض على ذلك الزوج هذه المبالغ فيهاب أحد أن يتزوج منهم فيكون ضررا عليه.
وبكل حال فالأصل السعي في تخفيف الصداق وتزويج المعسر، وكذلك أيضا السعي في مساعدة الفقراء حتى يتزوجوا، ولو من الزكوات والصدقات المفروضة والمسنونة، فقد سمعنا أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث ذلك الرجل الذي طلب الإعانة، بعثه على الصدقة أو مع المصدقين؛ ليصيب شيئا من المال يستعين به على صداق امرأته، فدل على أنها تحل له الزكاة إذا كان عاجزا، وأنه يؤخذ على أيدي الأولياء الذين يحبسون ذرياتهم. ويشددون في طلب المهور الرفيعة.
مسألة>